محمد رشيد رضا – مجلة المنار
حكمة الصيام وفضل رمضان
(1) قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصيام جُنَّة)، أي وقاية، رواه الإمام أحمد و النسائي عن أبي هريرة و الترمذي عن معاذ وروياه مع ابن ماجه عن عثمان بن أبي العاص بلفظ: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)، وفي رواية للنسائي و البيهقي عن أبي عبيدة: (الصيام جنة ما لم يخرقها)، وزاد الطبراني في الأوسط: (بكذب أو غيبة)، وقد روى الحديث غيرهم من طرق أخرى.
والمعنى أن الصوم سبب للوقاية من النار كالجنة تكون سببًا للوقاية من الطعن والضرب ما لم تخرق، وإنما كان الكذب والغيبة – وهي ذكر الناس بما يكرهون – أن يذكروا به خارقين لجنة الصيام ؛ لأن الغرض من الصيام تعويد النفس على ترك المعاصي والشهوات المحرمة، فإن مَن يترك المباح له في الأصل – كالأكل والشرب والملامسة الخاصة بينه وبين امرأته، وهو متمكن من فعل ذلك في كل وقت يعنُّ له وإنما يتركه امتثالاً لأمر ربه وعملاً بما فرضه من وسائل تأديبه – كان جديرًا بأن يتمكن من ترك المحرم عليه في الأصل، إذا اشتهى أن يصيب منه.
فالصيام يزيد في الإيمان بالله تعالى ؛ لأن هذه المباحات التي يجب تركها فيه هي التي يحتاجها الإنسان دائمًا، وتعرض له في كل وقت، فهو لا يتركها إلا امتثالاً، وهي تذكِّره في كل وقت بالله تعالى ؛ فيزداد مراقبة له، واتقاءً لمخالفته، حتى يملك نفسه، ويضبط نزعاته الشهوية بالتكرار الذي يطبع الملكات في النفوس، كما شرحنا ذلك في بعض المجلدات السابقة من النار.
سألني أحد الإفرنج: هل تصوم رمضان كله، فلا تفطر فيه جهرًا ولا سرًّا ؟ فقلت: نعم، إنني أصومه، وكم زدت عليه من صيام التطوع. قال: وهل تظن أن الله يكون مسرورًا ومبسوطًا من تركك الأكل والشرب ويغتاظ إذا أكلت ؟ فقلت: إن ديننا ليس كالأديان التي تعرفها، يجعل العبادة تعذيبًا للنفس بزعم أن الله يحب أن يحرج نفوس الناس ويعنتهم كما يفعل الملوك الظالمون وإنما يعلمنا ديننا بأن الله تعالى لم يجعل علينا في الدين من حرج ويمن علينا بأنه لو شاء لأعنتنا ولكنه لم يفعل لأنه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ويرشدنا إلى أنه ما فرض علينا شيئًا إلا لمنفعتنا وما حرم علينا شيئًا إلا لأنه يضرنا وقد ورد في الحديث القدسي: (يا عبادي لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني..) إلخ، فهذا الصيام نافع لنا ؛ لأنه يربي لنا ملكة الحكم على أهوائنا وشهواتنا فلا يصعب علينا مع هذه الملكة أن نترك المعاصي المضرة…
قال: إننا نعهد أن الذي يمنع من شيء يكون بعد زوال المنع أشد ولوعًا وأكثر ضراوة به وإنني أعرف في بلادنا كثيرًا من الناس ربّوا أولادهم على المنع من القبائح كالسُّكْر والزنا والقمار وما هو أهون من ذلك، فلما زالت عنهم سلطة المنع كانوا أشد الناس انغماسًا في الشهوات، وأكثرهم ارتكابًا للموبقات، فقلت: نعم إن هذا أمر طبيعي فإن الذي يمنع بالقهر والإلزام عمّا يحبه ويشتهيه يزداد ميلاً إليه وحبًا فيه، وقد قال الشاعر العربي:
منعت شيئًا فأكثرت الولوع به
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
ولكن المنع من الأكل ونحوه في الصيام ليس منع قهر وتحكم ؛ وإنما هو امتناع اختياري عن اقتناع واعتقاد بأنه خير ونافع وسبب من أسباب السعادة ولولا ذلك لما صام الصائم، إذ يتمكن كل أحد من الإفطار سرًّا إذا كان يستحي من الناس أن يفطر جهرًا. ولهذا المعنى كانت تربية القسوة والقهر ضارة ومفضية إلى الإفساد وكانت التربية الدينية الإسلامية المبنية على الاعتقاد والاقتناع هي التربية النافعة التي لا ضرر فيها، وإننا نرى الأولاد الذين يُربَّوْن بالقسوة والحكم القاهر أذل الناس نفوسًا وأفسدهم أخلاقًا وكذلك نرى تأثير الحكومات المستبدة القاسية في الرعية تفسد بأس الأمة وتهبط بأخلاقها وآدابها إلى أسفل سافلين.
وقد لاحظ الفيلسوف العربي ابن خلدون هذا المعنى فعقد له فصلاً في مقدمته واستشهد له بإنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سعد بن أبي وقاص قائد جنده في حرب الفرس معاملة أحد الشجعان بالقهر، حين أخذ سلب قتيل قتله بدون إذنه، واحتج عمر على سعد (رضي الله عنهما) بأن ذلك يفسد بأس ذلك الشجاع… قال محدثي بعد تمام الحوار: إن كل ما ذكرته صحيح.
وأزيد الآن – وإن أطلت في شرح الحديث بما ليس من موضوع الصوم – عبارة ابن خلدون في المثال الذي أوردته قال بعد ذكر عزة الذين يُساسون بالرفق والعدل: وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سَوْرة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه. وقد نهى عمر سعدًا رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس (سلب القتيل بالتحريك ما معه من سلاح وغيره)، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفًا من الذهب وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد وقال له: هلاَّ انتظرت في اتباعه إذني، وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر: (تعمد إلى مثل زهرة، وقد صلى بما صلى به وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه [*] وتفسد قلبه)، وأمضى له عمر سلبه ثم انتقل ابن خلدون إلى بيان كون الأحكام الشرعية لا تُذهب بالبأس والمنعة ؛ لأن الوازع فيها نفسي ونقل عن عمر أنه قال: (مَن لم يؤدبْه الشرع لا أدبه الله)، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه.
(2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون ؟ فيقومون فيدخلون منه فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد) رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن سهل بن سعد. وقد فسر بعض أهل البصيرة الحديث وأمثاله بأن المراد بأبواب الجنة أصول الطاعات ومجامع الخير وكأنهم أخذوا هذا من حديث الطبراني عن سهل أيضًا: لكل باب من أبواب البر باب من أبواب الجنة وإن باب الصيام يدعى الريان، وتسميته بالريان يشير إلى ذلك. واستدل عليه الشيخ محيي الدين بن عربي في فتوحاته بحديث ورد في أن أبا بكر يدخل الجنة من أبوابها كلها وهو لا يعقل إلا بهذا التفسير.
(3) وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب وإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسُ محمد بيده لخَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه). رواه الشيخان والترمذي من حديث أبي هريرة. ومعنى: (كل عمل ابن آدم له) أن لكل طاعة من الطاعات لذة يجدها مَن أقام تلك الطاعة فللصلاة من لذة المناجاة لله تعالى ما ليس لغيرها، ووالله إن البكاء فيها لهو ألذ عند الخاشعين من الضحك في سواها، فيا حسرةً على مَن حُرم منها، وللزكاة لذة التفضل وعزة الغنى والسيادة، ولمناسك الحج عمل في تحريك الشعور الديني، والتوجه إلى العالم الروحاني، يشترك فيه الجاهل بأسراره مع العالم بها ؛ ولذلك ترى العوام ينجذبون إليه كالخواص، ولا يوجد مسلم إلا وهو يحن إلى تلك المعاهد حنين الطير إلى أوكارها، وهذه اللذة مطَّردة فيما عدا الأركان من أعمال البر إلا الصوم فإنه ترك لا لذة ولا حظ للنفس فيه لأنه أمر عدمي وأثره الوجودي هو الألم، فهو جدير بأن يتولى الله تعالى مثوبة صاحبه بترقية نفسه في الكمال والتهذيب حتى يلقاه بقلب سليم، ويستحق جنات النعيم، وقد مر تفسير كون الصيام جنة في شرح الحديث الأول.
والرفث المنهي عنه هو الإفضاء إلى النساء الذي يكون بين الزوجين وقيل هو الكلام الفاحش ؛ لأن ترك الأول مما لا يتحقق الصيام إلا به، والصَّخَب (بالتحريك) الصوت الشديد واختلاط الأصوات. وكيف لا يكون ترك الفحش والصخب والتسابّ وسائر المعاصي من مهمات آداب الصوم أو شروطه مع أنه لا يتحقق إلا بترك المباح الذي لا قبح فيه وهذه الأشياء من أقبح القبائح، ولقد أحسن حجة الإسلام في تمثيل من يترك الأكل والشرب المباحين ويفعل المحرمات بمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا.
وخلوف الفم: تغيُّر رائحته من الصيام والكلام كناية عن كون هذا التغير الذي يعرض للصائم ومن شأنه أن يكون مكروهًا عند الإنسان هو محمودًا في حكم الله تعالى مرضيًّا عنده من عبده ؛ لأن أثره نافع له في تهذيب نفسه الذي هو أساس سعادته. وقيل إن ذلك يكون في الآخرة حقيقة وورد فيه حديث.
وأما الفرحتان فأمرهما ظاهر فالفرحة عند الإفطار معروفة لجميع الصائمين وهي ليست جثمانية محضة ؛ بل هي روحانية جثمانية ؛ فإن الإصابة من الطعام المباح المستلذ بعد الجوع يصحبها الشعور الروحاني بلذة إتمام العبادة ورجاء الرضوان الإلهي ؛ ولذلك نرى لطعام رمضان شأنًا لا نجده لغيره في أوقات الجوع التي تعرض لنا في غير الصيام مما ربما يزيد عن الجوع بالصيام. وأما الفرحة الأخرى فلا تُعرف حقيقتها إلا بالوصول إليها.
واللهَ نسأل أن يسهل لنا سبيلها بالقيام بحقوق الصيام بحيث تتهذب به نفوسنا وترتقي به أخلاقنا، وأن يهب لنا من فضله فوق ما نستحقه بأعمالنا.
(4) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو يؤيد ما قلناه في شرح الحديث السابق.
(5) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم ذنبه). رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وفي حديث آخر: (مَن قام). وقد اتفق العلماء على أن المراد بالذنوب الصغائر أو الكبائر باعتبار قيد التوبة ورَدِّ الحقوق إلى أهلها ؛ لأن هذا القيد معروف من أصل الشريعة المتفق عليه. ونقول: إن الفقه في الحديث هو أن من صام شهرًا بباعث الإيمان واحتساب الأجر على الله تعالى – لا بمقتضى العادة وموافقة الناس في تغيير مواعيد الأكل يجعلها في الليل بدلاً من النهار – فلا شك أن إيمانه يقوى ويزداد ونفسه تتزكى من آثار الذنوب التي يلم بها المؤمن بسبب الغفلة عن الله تعالى. فتحل بالصيام الذكرى محل الغفلة، ويشرق النور في مكان الظلمة، وتمحو الحسنات ما كان في النفس من أثر السيئات، فتحسن الحال، وتصلح الأعمال، فهذا هو معنى المغفرة ؛ لأن الغفر في اللغة هو الستر والتغطية ولا أبلغ في ستر الشيء من إزالة أثره كما تزيل الحسنات السيئات. ورواية: (ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ضعيفة.
(6) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة وغُلّقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة. وأبواب الجنة هي الطاعات وأبواب النار هي المعاصي كما تقدم ولا شك أن هذه تغلق دون الصائمين وتلك تفتح أمامهم فيدخلون فيها أفواجًا، ومعنى: (تصفَّد الشياطين) أنه لا يكون لها سبيل للوسوسة والإغواء ؛ لأن أبواب المعصية والشهوات مقفلة لا سبيل إلى الدخول فيها. وفي رواية زيادة: (وينادي منادٍ: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر) وفي رواية: (أمسك). باغي الشيء مريده والكلام كناية عن كون حال الصيام تقتضي المزيد في الخير والإمساك عن الشر. وسمعت الأستاذ الإمام يقول: إن شهر رمضان لا يصلح فيه عمل الدنيا ؛ فينبغي للعبد أن يتخلى فيه لعمل البر ما استطاع، أو ما هذا معناه، وقد رُوي في فضل رمضان أحاديث كثيرة،أكثرها بين موضوع وضعيف، وحسبك من الصحيح ما ذكرناه.