موقع بلدة القلمون في لبنان

بلدة العلم والعلماء

ذكرى الهجرة النبوية الشريفة وجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

محمد رشيد رضا – مجلة المنار

ذكرى الهجرة النبوية الشريفة

وجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

بسم الله الرحمن الرحيم

 الله أكبر، هذا هلال العام الجديد عام 1330 (تاريخ نشر المقال قبل 110 سنوات) للهجرة النبوية الشريفة. هذا هو الهلال الذي يذكرنا في كل سنة بذلك النور الذي كان خفيًّا في مكة المكرمة، فأشرق بالهجرة في المدينة المنورة، ثم امتد منها إلى جميع أرجاء العالم، فدخل به العالم الإنساني في عصر جديد، فكان تاريخًا للإنسانية جديدًا.

الله أكبر، هذا هو الهلال الذي يذكرنا في فاتحة العام بذلك الإصلاح العام، الذي جاء به الإسلام، فاستفاد منه جميع الأنام، ثم حالت الأحوال، فصار حظ المسلمين من سعادته دون حظ غيرهم، حتى آل أمرهم في العام الذي ودعناه إلى ما يعرفه كل أحد، من وقوع خطر وتوقع خطر، فعسى أن يكون حظ هلالنا السياسي الاجتماعي في هذا العام الجديد خيرًا منه فيما قبله، ولا يكون كذلك إلا بالرجوع إلى تلك الهداية العليا: هداية التوحيد والاعتصام بعد الشقاق والخصام، ” وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ” (الأنفال: 46) وبالسير على سنن الله في خلقه ” قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا ” (آل عمران: 137) وبتغيير ما بأنفسنا من الأخلاق والأفكار، التي خالفنا فيها سلفنا الأخيار ” إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ” (الرعد: 11).

دخل العالم بالهجرة النبوية في عصر جديد لم يسبق له نظير في التاريخ فكان جديرًا بأن يكون تاريخًا للبشر كافةً، لا للمسلمين خاصةً.

قضى الإسلام قضاءه المبرم على الوثنية التي أذلت البشر واستعبدتهم للملوك المستبدين، والرؤساء الروحانيين، ولمظاهر الطبيعة وما يمثلها في الهياكل من الأصنام والأوثان، وقرر حرية الاعتقاد والوجدان، والاجتهاد الاستقلالي في العقائد والأعمال، والشورى في السياسة والأحكام، وأبطل امتيازات الأنساب والأجناس، التي كان يستعلي بها الناس على الناس، بغير علم نافع، ولا عمل رافع، وجعل قاعدة الإنسانية العامة قوله عز وجل: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ” (الحجرات: 13).

هذا درس عام في حقوق الإنسانية العامة، علمه الإسلام لجميع البشر بالقول والفعل، فاستفادوا منه بقدر استعدادهم في كل عصر من الأعصار، فإذا كانت العرب قد سبقت غيرها إلى الاستفادة منه؛ لأنه ألقي بلغتها وظهر فيها، فأزالت ظلم الرومان وغيرهم من المتغلبين القاهرين للإنسانية، وأحيت العلوم والمعارف، وأنشأت جنات المدنية في الشرق والغرب، – فرب لاحق يبذُّ السابق، كما رأينا الشعوب الإفرنجية قد أخذت المدنية عن أجدادنا أهل الأندلس وغيرهم وبرزت علينا فيها، فكل هذا مما يجب أن يذكرنا به تاريخ الهجرة فنعلم أن البشر لو أنصفوا لجعلوه التاريخ العام لهم.

كان البشر قبل الإسلام متقاطعين ليس بينهم صلة عامة، وكانت المدنية تظهر في قطر من أقطارهم، ثم تخفى وتزول قبل أن تتصل بسائر الأقطار، بل كانت الأديان ذات السلطان الأعلى على البشر تشرع وتنسخ فلا يمر زمن قليل إلا ويذهب أصلها وينقطع سندها، وما اتصلت حلقات سلسلة العلم الإلهي والبَشري، وسلسلة المدنية والأعمال البشرية، إلا بهذا الانقلاب الإسلامي الذي جدد تاريخ البشر، فصار جميع ما يؤلف في بغداد وسمرقند وخراسان وغيرها من مدن الشرق، ينسخ ويقرأ في عصر مؤلفيه بقرطبة وغرناطة وسائر مدن الأندلس في أقصى الغرب، (واحكم على العكس بحكم الطرد) فبهذا كانت الهجرة أجدر حوادث الكون بأن تكون مبدأ تاريخ عام للبشر – كذلك أشرعت مذ ذلك العصر طرق التجارة بين الخافقين في البر والبحر، وصار يتحقق بالتدريج ما هدى القرآن البشر إليه من حكمة التعارف بين الشعوب والقبائل، الذي يمهد السبيل إلى الأخوة الإنسانية العامة.

ولولا ذلك الروح الإلهي الذي بثه الإسلام في الناس لما تيسرت له تلك المواصلة في ذلك العهد الذي لم تكن تُعرف فيه الكهرباء ولا البخار، وإنما كانت همة المسلمين نائبةً عن قوى الطبيعة التي عرف منها تلاميذهم من بعدهم، ما كانوا أعدوا عدته ومهدوا طريقه لهم، فكما سرت جميع شعوب المدنية في ذلك وغيره على طريقهم، كان ينبغي أن يشاركوهم في تاريخهم.

أحيا المسلمون ما كان أماته الزمان من علوم اليونان، فإذا هي علوم أكثرها نظري وأقلها عملي، وكان من هداية الإسلام لهم أن يقرنوا العلم بالعمل، فكانوا هم الذين وضعوا قواعد التجربة والعمل للعلوم الطبيعية، فجعلوا الكيمياء الخرافية كيمياء عملية، وعلى هذه القاعدة بنى تلاميذهم الإفرنج علومهم التي قامت بها المدنية الحديثة، فبهذا كان الإسلام فاتحة عصر جديد أيضًا، وكان تاريخ الهجرة الشريفة جديرًا بأن يكون تاريخًا عامًّا للبشر كلهم.

إن فيما شرعه الإسلام من الهجرة تربية عالية للبشر، الذين قرن الله تكريمهم في كتابه بتعظيم شأن السفر، فقال: ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ ” (الإسراء: 70) فالهجرة عبارة عن فرار الإنسان بحريته في فكره ووجدانه وعمله من الأرض التي يُضطهد فيها ويُظلم إلى الأرض التي يكون فيها حرًّا عزيزًا.

قال تعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ” (النساء: 97) ولما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين في مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وعلل ذلك بأن ملكها النجاشي لا يظلم عنده أحد، فثبت بالكتاب والسنة أن الهجرة قد شرعت لتكريم البشر، وتعظيم شأن الحرية، وإباء الظلم والذل والضعف، وقد كان المسلمون أعز الناس وأكرمهم نفوسًا، وأشدهم إباء للذل والظلم، عندما كانوا عالمين بأسرار هذا الإصلاح الذي جاء به دينهم عاملين به، ثم سرى هذا الإباء والعز منهم إلى غيرهم، بعد ما ضعف فيهم، فكان خيره عامًّا منتشرًا في البشر، فما أجدر الهجرة الشريفة بأن تكون تاريخًا عامًّا لهم.

أشرق نور النبي صلى الله عليه وسلم على مدينة يثرب عند دخول الشمس في برج الميزان أول الاعتدال الخريفي، (23 سبتمبر) فكان ذلك إشارة إلى ما دخل فيه العالم من عصر العدل والاعتدال، فكان ينبغي للمسلمين أن يجعلوا ذلك مبدأ للتاريخ الشمسي للهجرة الشريفة عند حاجتهم إليه لأجل المعاملات المالية، كما جعلوا التاريخ القمري للمعاملات الدينية، فإذا كنا قد دخلنا اليوم في عام 1330 الهجري القمري فقد دخلنا منذ ثلاثة أشهر في عام 1290 الهجري الشمسي، فهل لمصر أن تكون السابقة إلى استعمال هذا التاريخ الشمسي، كما كانت هي السابقة للعالم الإسلامي كله إلى الاحتفال بذكرى التاريخ القمري، بعد أن كاد يُنسى فيها باستعمال التاريخ الإفرنجي الذي أخذناه عن الإفرنج في هذا العصر وما كنا لترجيحه على تاريخنا بمحتاجين.

لولا أن انحلت روابطنا، وسحلت مرائرنا، لما استبدلنا بتاريخنا تاريخ غيرنا ولقد كان يوم تقرير الحكومة المصرية جعل التاريخ الإفرنجي رسميا يوم فرح وسرور في أوربة؛ لأن ما تقلد به أمة أمة في أمر من الأمور الملية العامة يكون دليلاً على ضعف المقلِّدين (بكسر اللام) وعلو شأن المقلَّدين (بفتح اللام) ومقدمةً لاستيلاء المتبوع على التابع والسيطرة عليه.

يقول المقلدون منا: إنه لا بد لنا من التاريخ الشمسي وإن التاريخ الإفرنجي قد اشتهر فهو أولى من إحياء تاريخ الهجرة الشمسي الذي لا يفهمه أحد. وكذلك ينصح بعض الناس للدولة العثمانية أن تختار هذا التاريخ في معاملاتها المالية والرسمية. وهذه حجة الضعيف في استقلاله الشخصي والملي , ويرد هذا بأن الاستعمال يجيء بالشهرة ويجعل المجهول معروفًا، فقد كان بدء جعل الميلاد أساسًا للتاريخ في سنة 464 هجرية ولم يكن مشهورًا ولا معروفًا، ثم ظهر لهم الخطأ فيه فحرروه وصححوه ولا يزال مبنيًّا على خطأ استقلال رأي الأكثرين فيه على قاعدة (الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور) فما هو الموجب لترك ما عندنا من الصواب وتقليد غيرنا في الخطأ؟ وتاريخنا أحق بالتعميم وأجدر، وتقدم المرجوح في الزمن لا يجعله راجحًا، فالقِدم أمر نسبي كما قال الشاعر:

إن ذاك القديم كان حديثًا

وسيبقى هذا الحديث قديمًا

لا يكفي في تعظيم الهجرة وإحياء ذكرى تاريخها أن نحتفل في هذا اليوم بإلقاء الخطب، وإنشاد القصائد، وإنشاء المقالات في الجرائد، وإنما يجب علينا تعظيمها بالعبرة والعمل، والمقابلة بين ماضينا وحاضرنا، لا لأجل التلذذ بذكر الماضي الجميل، والغرور بما مضى وانقضى من ذلك التاريخ المجيد، ولا لأجل الشكوى من الضعف العتيد، واليأس من المستقبل القريب أو البعيد، بل لأجل أن نتذكر ونتدبر، فنعلم أنه لا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا، كما قال أحد أئمة العلم من سلفنا، وإن في تاريخ الهجرة من دروب العبرة وآيات الحكمة ” لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ” (ق: 37).

نودع عامًا ونستقبل عامًا فلا تطوى صحف عامنا الغابر على عمل يذكر، ولا ينشر في صحف العام الحاضر مشروع للأمة يُشكر، إلا ما يرى في بعض البلاد من الحركة الضعيفة، ودروج كدروج الأطفال وراء الشعوب القوية، التي تسير أمامنا بقوة البخار والكهرباء، فتسبق الأرقام على الأرض والطيور في الهواء، وإننا لنرى حولنا في كل عام فتنًا كقطع الليل المُظلم، كلما غشيتنا قطعة منها وجمنا وتألمنا، وصحنا ونُحنا، فإذا هي انجلت عدنا كما كنا. لا نحسب لما بعدها حسابًا ولا نعمل لها عملاً، أرضينا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم ” أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ” (التوبة: 126).

كلا إنا إلى ربنا تائبون، ولما هدانا إليه من الجمع بين العلم والعمل متوجهون، بهذا تبشرنا الحوادث، وإلى هذا تدعونا الكوارث، ورب مصيبة أفادت عبرة خير من نعمة أحدثت غرورًا وفترة، وإننا نهنئ إخواننا المسلمين على رأس هذا العام، بما تجدد لهم من شعور الأخوة العام، ونبشرهم بأن جماعة الدعوة والإرشاد قررت تنفيذ نظام مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) من غرة هذا الشهر فاتحة العام الهجري المبارك إن شاء الله تعالى، وسينشر هذا النظام في الجرائد فيرون فيه أنه هو الضالة التي ينشدها المصلحون، والرغيبة التي ينتظرونها المحسنون ” لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ ” (الصافات: 61).

ناظر دار الدعوة والإرشاد

 محمد رشيد رضا

تمرير للأعلى